رامي الأمين
ضمّن وضاح شرارة كتابه "أيام القتل العادي"(دار النهار، 2007) تسعة حوادث قتل وقع بعضها على جماعات وبعضها على أفراد. وقد أختار من بين الحوادث التسعة، حادثتين هزّتا المجتمع اللبناني (المهزوز اصلاً) وضجت بهما وسائل الإعلام حينها: الأولى، "مقتلة دورس العائلية" التي ارتكبها الفتى حسين عاصم عواضة (16 عاماً) في 30 كانون الأول 1994 بحق أم وولديها الصغيرين بعد اقتحام منزلهم بهدف السرقة، وانتهت الجريمة إلى جريمة ثانية ارتكبها "الشرع" الديني والحزبي والعائلي في منطقة بعلبك الذي حلّ مكان الدولة والقضاء حينها، وأصدر حكماً بقتل الفتى ونفذ الحكم وسلمت جثته إلى ذويه و"هي مصابة بطلق ناري واحد في الجبهة"، فيما أجهزة الدولة الأمنية والقضائية والسياسية تراقب بصمت.
والثانية، "مقتلة أحمد منصور البيروتية"(جريمة الأونيسكو) والتي نفذها في 31 تموز 2002 الموظف في صندوق التعويضات البالغ من العمر 46 عاماً بحق ثمانية أشخاص، ستة منهم زملاء يعملون في الصندوق وإثنان كانا يصرفان معاملات إدارية، فأرداهم جميعاً، وجرح اربعة آخرين من العاملين في الصندوق.
والكتاب الذي يوثق لسبع جرائم قتل أخرى "من اغتيال رياض الصلح إلى اغتيال رفيق الحريري"، لم يعثر كاتبه، وهو باحث واستاذ جامعي مرموق، على ما هو أكثر فظاعة وتأثيراً على المجتمع اللبناني، من هاتين الجريمتين، اللتين وضعتا حين ارتكابهما في خانة "الحوادث الفردية"، لمنع انزلاقهما إلى اقتتال جماعي أو حرب أهلية، خصوصاً أنهما وقعتا في زمن السلم الأهلي بعد اتفاق الطائف. فكان الإقتصاص(الإنتقام) العشائري تارة(كما في حالة عواضة)، والقضائي طوراً(نفذ حكم الإعدام بمنصور مع محكومين آخرين بجريمتي قتل مدنيين وعسكريين في كانون الثاني 2004) ، أداة لكبح تدهور السلم الأهلي إلى وادي جهنم.
فحتى عام صدور الكتاب في 2007، بقيت هاتان الجريمتان، على أقل تقدير، من أكثر الجرائم ملامسة للوجدان الجماعي اللبناني، وامتحاناً للإتزان المجتمعي والنفسي الذي يمضي "على قلق(المتنبي) كأن الريح تحته". وكادت هذه الريح في عام صدور الكتاب أن تنقلب إلى عاصفة مع جريمة لم يكتب لها أن تلتحق بروزنامة وضاح شرارة لـ"أيام القتل العادي" التي كانت على الغالب قد وجدت طريقها حينها إلى المطبعة، لكنها لم تتخلف عن الإنضمام إلى "عادية" القتل، وقد عرفت بجريمة قتل الزيادين(زياد غندور وزياد قبلان) والتي نفذها ثأراً لشقيقهم المقتول، اشقاء من آل شمص، وكادت هي الأخرى أن تقطع الحبل بالبلاد المتروكة كدلو في منتصف المسافة إلى بئر الحرب الأهلية، لولا أن وضعت هي الأخرى في إطارها الفردي، وجرى "قطع الطريق(بدل الحبل) على الفتنة"، وهي بالمناسبة، في أدبيات اللبنانيين، "أشدّ من القتل".
لكن "القتل العادي" استمر، وانزلق فعلاً إلى حرب أهلية مصغّرة، تضمنت هي الأخرى عمليات قتل "عادية" متفرقة، في أحداث السابع من أيار من العام 2008، ثم انتشله السياسيون مبللاً بالدم، واعادوه إلى عاديته اليومية، راقصاً على حافة الهاوية، متلاعباً بمصائر اللبنانيين، المنقسمين بين قتلى ومقتولين عاديين على الطرقات، في جرائم تُحبس دائماً في زنازين "الحوادث الفردية"، على نحو كاريكاتوري يذكر برسم ساخر ولاذع للرسام سعد حاجو، يصرح فيه مواطن عن رغبته بأن يُدفن "وحيداً في مقبرة جماعية".
"أيام القتل العادي" كل يوم. لا يكاد يخلو يوم من خبر جريمة "فردية" في هذه المقبرة الجماعية التي "نعيش" فيها. أما القتلة فأحرار في برية الفلتان الأمني والقضائي، طالما أنهم لا يهددون "السلم الأهلي"، وطالما أن جرائمهم تبقى دائماً وأبداً "في إطارها الفردي" و... العادي!