ترأس متروبوليت
بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس، وأقام خلال القداس جنازا لراحة نفس ضحايا انفجار 4 آب، وألقى عظة قال فيها: "أحبائي، يخبرنا إنجيل اليوم عن حادثة تكثير الخبزات الخمس والسمكتين وإطعام الجمهور الكبير الذي شبع وفضلت عنه إثنتا عشرة قفة. هذه المعجزة هي الوحيدة التي يدونها الإنجيليون الأربعة جميعا، بسبب أهميتها. في ذلك الحين، كان التلاميذ لا يزالون يتعاملون مع الرب يسوع على أنه إنسان مثلهم، إذ لم يكونوا قد فهموا لاهوته بعد. لهذا، فكروا بمنطق بشري، وطلبوا منه أن يصرف الجموع لأن المساء قد حل، وهم لا يستطيعون تأمين الطعام لجميع الموجودين. غالبا ما تقف الحسابات البشرية عائقا أمام الإيمان، الأمر الذي يحدث دوما مع الذين يحسبون أنفسهم من المؤمنين المواظبين على المجيء إلى الكنيسة، لكن الهموم الأرضية تشغلهم إذ قد غفل عن ذاكرتهم قول صاحب
المزامير: «ألق على الرب همك وهو يعولك» (مز 55: 22). التلاميذ الذين يلازمون معلمهم ليل نهار، ويعاينون الآيات والمعجزات، وقفوا عاجزين، إلا أن الرب يسوع شاءها فرصة تعليمية لتلاميذه، فطلب منهم أن يأتوه بما عندهم من طعام. هنا، يعلمنا الرب أن نقدم ما عندنا، مهما كان قليلا، وإذا كان عطاؤنا نابعا من القلب، من دون تذمر أو خوف، يبارك الرب تقدمتنا، ويجعلها كافية، لا بل تفيض ويفضل عنها الكثير. يعلمنا ربنا أن نضع إمكاناتنا المحدودة بين يديه وهو يلغي محدوديتها، إن آمنا به".
واضاف: "العدد «خمسة» يشير إلى الناموس، إذ إن التوراة هي الكتب الموسوية الخمسة الأولى من العهد القديم. يشير أيضا إلى الحواس الخمس التي أنعم الله بها على الإنسان. فإن لم تطبق حواسنا كلها الناموس بمحبة، كل حسب استطاعته، يبقى الإنسان محدودا بمنطقه البشري الضعيف، غير مؤمن بقدرة الرب غير المتناهية. نحن في زمن يكثر فيه اليائسون، لذا، من يستطيع، عليه أن يعمل حاسة السمع لكي يساعد اليائس على إخراج مكنونات قلبه وإحلال
المسيح مكانها. هذا عمل محبة بسيط، لكنه قد ينقذ نفوسا من الموت. السمكة، في التقليد المسيحي، ترمز إلى المسيح، إذ إن اسمها باليونانية مشكل من أحرف خمسة تختصر عبارة: «يسوع المسيح ابن الله المخلص». السمكتان، يمكن أن تكونا رمزا لطبيعتي المسيح الإلهية والبشرية، أي إلى الإله المخلص الذي تأنس لينقذنا من جوعنا إلى الخطيئة، عبر إشباعنا من نعمته الإلهية. وقد أعطانا جسده خبزا لمغفرة الخطايا وللحياة
الأبدية. أما الإثنتا عشرة قفة التي بقيت، فتشير إلى شعب الله المؤمن، مثل الأسباط الإثني عشر التي شكلت شعب الله
المختار. عندما يشبعنا الرب من كلمته ونعمه الإلهية، نصبح شعبه الخاص المؤمن، فنثمر ونفيض كالسنابل الملأى".
وتابع: " لقد ترك الرب الشعب يجوع، وهذا العدد الكبير من الجياع لا يفضل عنهم أي فتات، لكن الرب شاء أن يظهر قدرته لكي يؤمن به تلاميذه، حتى يهوذا، ولهذا نجد أن ما تبقى من القفف كان على عدد التلاميذ، الأمر الذي شكل دينونة أعظم ليهوذا الذي عاين قدرة الرب يسوع، لكنه لم يؤمن به، بل فضل أن يضع ثقته في حفنة من النقود. هذا ما نقع فيه جميعا، عندما نظن أننا مؤمنون، لكننا نتصرف عكس إيماننا، فنكنز الأموال والمآكل وشتى الماديات، ظنا منا أنها ستبقى سالمة، لكن السارق يأتي على غفلة، والسوس لا يترك طعاما إلا ويغزوه. الرب وحده هو السرمدي، الذي كان، والكائن، والذي سيكون".
وقال: "يا أحبة، في بلدنا كل جماعة تضع ثقتها في مكان محدد، إلا في المكان المناسب. لا نجد انتماء واضحا للبنان، وطنا واحدا لشعب واحد، يحميه جيش واحد يجمع الكل تحت راية
الوطن الواحد، هذا الجيش الذي، في مناسبة عيده، نسأل الله أن يحميه قيادة وأفرادا. كل جماعة تخاف غيرها، الذي هو شريكها في الوطن. بلدنا تشرذم بسبب غياب المحبة، وعدم الإعتراف بالآخر المختلف والتواصل معه خوفا منه. إلى متى سيبقى شعب
لبنان شعوبا؟ إلى متى سيبقى لبنان تحت وطأة الإختلافات والإنقسامات والتباين في الآراء؟".
وتابع: "بعد أيام قليلة تحل الذكرى الثالثة للحدث الأليم الدموي الذي أصاب قلب
العاصمة بيروت، فقتل ودمر وشرد وهجر. الرابع من آب 2020 ذكرى لن تغيب عن وجدان أي لبناني أينما حل، فكيف بأبناء بيروت الذين دفعوا من أرواحهم وفلذات أكبادهم وأملاكهم ثمن جريمة لا يرتكبها من في صدره قلب لحمي ينبض بالإنسانية، أو من يحمل ضميرا واعيا يدله على الخير ويردعه عن كل شر وأذى. ستبقى هذه الذكرى شوكة تنخز ضمائر المسؤولين عنها، الذين سببوها، والذين علموا بإمكانية حدوثها ولم يمنعوها، والذين لم يتحركوا بعد وقوعها، والذين وعدونا بإنجاز التحقيق في أسرع وقت، وقد مرت السنوات ولا نزال ننتظر على الأطلال. صحيح أن الناس تابعوا حياتهم، لكن ذلك لا يعني أن شفاء نفوسهم وأجسادهم وقلوبهم قد تم. شعبنا قوي، ويقدس الحياة، لكنه في الوقت نفسه لا ينسى أحباءه الذين فقدهم في لحظة غدر، عندما كانوا في أمان منازلهم، أو في سياراتهم، أو في مراكز عملهم، كالممرضات الباسلات اللواتي يفتقدهن مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي، وسواهن من الأبطال الذين قدموا أرواحهم بشجاعة، ونخص بالذكر منهم أفراد فوج إطفاء بيروت. هذا الشعب القوي يطالب بإحقاق الحق، وبأن تأخذ العدالة مجراها، وترفع الحصانات ليحاسب كل مرتكب ومهمل، كائنا من كان، عل ذلك يكون درسا لكل من تسول له نفسه ارتكاب جريمة مماثلة، وخطوة تبرد قلوب كل الذين خسروا أحباءهم، وممتلكاتهم، وجنى أعمارهم، أو أصيبوا في أجسادهم. كل هؤلاء ينتظرون استكمال التحقيق وكشف الحقيقة وإنزال العقاب بمن أنزل بهم هذا الضرر الجسيم. لكن المحزن أنهم هم الذين يعاقبون إما بإعاقة التحقيق أو بإخفاء الحقيقة أو بإسكاتهم وقمعهم وملاحقتهم. هل هذه هي العدالة التي يطمح إليها كل إنسان؟ هل هكذا تعالج جريمة بحجم عاصمة؟ كيف يشعر المواطن بالأمان بلا قضاء عادل وبلا محاسبة المجرمين؟ هل يجوز أن تمر بلا محاسبة جريمة دمرت العاصمة وأصابت الآلاف؟ حيث لا محاسبة لا أمان ولا انضباط ولا استقرار".
وختم عوده: "سوف نصلي اليوم معا من أجل راحة نفس كل من سقط ضحية التفجير الآثم، ومن أجل تعزية كل الذين تأذوا نفسا وجسدا. نصلي من أجل عاصمتنا بيروت التي ما زالت تلملم أشلاءها، بيروت التي تدفع دائما الثمن مع أبنائها، ولا ذنب لها إلا أنها العاصمة الجميلة، المحبوبة من جميع من عرفها، والمضطهدة من كل غاضب على الدولة، أو ثائر على السياسيين، أو يائس من الحالة التي وصلنا إليها. بيروت التي ما زالت تنتظر المبادرات الخاصة لإنارة شوارعها أو لإصلاح طرقها أو لترميم منازلها التي دمرها الإنفجار، وما زال هناك من يتحين الفرص لشرائها وتهجير أهلها. بيروت التي ما زالت تنتظر العدالة وتتساءل أين التحقيق ولم لم يستكمل؟ بيروت التي، مع تمسكها بحقها بمعرفة الحقيقة وإنزال العقاب بمن طعن قلبها وقهر أبناءها، تؤمن بأن
عدالة السماء مهما تأخرت آتية لأن «لي الإنتقام، أنا أجازي» يقول الرب القدير (عب 10: 30). بارك الله حياتكم وأبعد عنكم كل غدر وكل شر وكل حزن وقلق، وضاعف المحبة في قلوبكم لتشعوا إيمانا وفرحا وعطاء، آمين".