كورس البكاء والتضرّع للعذراء في منزل سعدي يوسف العراقي الآشوري بعد سقوط بغداد
كورس البكاء والتضرّع للعذراء في منزل سعدي يوسف العراقي الآشوري بعد سقوط بغداد
A-
A+

كورس البكاء والتضرّع للعذراء في منزل سعدي يوسف العراقي الآشوري بعد سقوط بغداد

2016-09-16 | 12:50
كورس البكاء والتضرّع للعذراء في منزل سعدي يوسف العراقي الآشوري بعد سقوط بغداد
كورس البكاء والتضرّع للعذراء في منزل سعدي يوسف العراقي الآشوري بعد سقوط بغداد
 
 
 
بعد أربعين يوما من سقوط بغداد في عام 2003، كنت في بيروت أتابع بحسرة وذهول المجزرة التي تنفذها أميركا ضد العراق تاريخا وحضارة وشعبا عريقا. أربعون يوما أمضيتها على الهاتف متواصلا مع من أمكنني من أصدقائي العراقيين في بغداد والموصل والبصرة والحِلّة وأربيل والسليمانية وغيرها. كانت معاناة العراقيين من أصدقائي، الذين نجحت في التواصل معهم، تحزنني حتى شارفت على الاكتئاب. في اليوم الحادي والأربعين، لم أستطع تحمّل المزيد من الألم، فقررت الذهاب بنفسي إلى العراق.
 
انقطعت أخبار سائقي ورفيق دربي البري إلى العراق جعفر عباس فاضل منذ الأيام الأولى للغزو. ولذا توجّب عليّ أن أجد سائقا موثوقا لرحلة خطرة، كما قال لي سائق عراقي في موقف السيدة زينب في دمشق، موقف السيارات المتوجهة للعراق. لم أوفّق في العثور على سائق يأخذني إلى بغداد بأي ثمن. ولكني لم أستسلم، فسافرت إلى عمّان مباشرة حيث موقف السيارات المتوجهة للعراق.
 
وجدت سائقا مستعدا أن يأخذني إلى بغداد شرط أن أبيت الليلة في عمّان، على أن ننطلق فجر اليوم التالي إلى بغداد، إذ قال لي: “الطريج خطر.. اكو عصابات تسليب.. البلد فلتانة اغاتي. الله يستر!” وفي تمام الخامسة صباحا، انطلقنا صوب العراق. عبرنا الحدود الأردنية حيث خُتم جوازَينا، وتابعنا للحدود العراقية. لم تكن هناك أيّة إجراءات على الحدود العراقية ولا موظفون عراقيون. فقط جنود أميركيون من الجنسين متمركزون داخل سياراتهم المصفّحة، أشاروا لسائق سيارتي أن يتابع. قلت لسائقي: “لم تُختم جوازيّ السفر؟” فأجابني: “ستاذ، ماكو دولة في العراق.. ماكو جيش.. كل شيء ماكو! اكو الأميركان والكلاوجية.. العراق انتهي. ذول الأميركان دا يدمرون العراق ويسرقونه.”
 
تابع سائقي أبو زهر بصوت مضطرب: “الأميركان فللشو البلد.. أبواب ماكو. تدخل تخرج على كيفك، لا حسيب ولا رقيب. تقدر ستاذ تدخل أميركا أو بريطانيا بدون جواز سفر؟!” تنهّد أبو زهر وأضاف: “يسمّونه اجتثاث البعث.. بل هذا اجتثاث العراق!” استمعت بوقار دون تعليق. شعر أبو زهر باضطرابي، فتناول كاسيت و”دزة” في المسجّل، وتابعنا الطريق بصحبة الطرب العراقي إلى بغداد.
 
وصلنا بغداد مساءً مع أفول الشمس، وكان بانتظاري صديقي الشاب العراقي محمد موسى جاسم. قال محمد: “انشغلت عليك، فالطريق خطر وكل يوم نسمع عن حوادث تسليب وخطف.. ستاذ، بغداد التي تعرفها غير بغداد بعد الاحتلال. أنت في مدينة لا تعرفها، وأرجو ألا تفترض أنك في بيتك كالمعتاد. حجزت لك في فندق جديد اسمه ‘الرمال’ بالقرب من المسرح الوطني.”
 
أخذني محمد إلى الفندق. وفي الاستقبال، قيل لي إن الغرفة المطلّة على الشارع تكلّف 250 دولارا أميركيا لليلة، أمّا الغرفة الخلفية بـ350 دولارا. (الغرف الخلفية لا يطولها الرصاص الطائش والتفجيرات التي كانت سائدة في بغداد خلال تلك الفترة).
 
نمت ليلتي الأول في بغداد ما بعد الاحتلال على دوي انفجارات وطلقات أسلحة أوتوماتكية قريبة من فندقي. وعلمت في الصباح أن معركة ضارية دارت بين مقاومة عراقية وسكان فندق برج الحياة الذي كان مركزا للموساد حينها.
 
وصل محمد موسى في الساعة العاشرة صباحا متجهما، وقال لي: “قلقت عليك. حمدا لله على سلامتك. شنو البرنامج؟” أجبته: “بدي أزور السيد سعدي يوسف.” وسعدي يوسف هو صديق عراقي آشوري مُسنّ يسكن بغداد بالقرب من ساحة الواثق.
 
وصلنا إلى بيت اللواء المتقاعد سعدي يوسف، وترجلت من السيارة متخطيا الحديقة الأمامية متجها إلى باب المنزل كالمعتاد. اعترضني عند الباب الحارس الكردي الذي يعرفني جيدا. سألته: “عمي سعدي مش بالبيت؟!” فأجابني: “موجود، لكن لا أدري إن كان بإمكانك مقابلته؟ انتظر هنا من فضلك.” سدّ الباب بوجهي وغاب فترة طويلة، ثم عاد بعدها وقال لي: “تفضل!”
 
دخلت المنزل الذي أعرفه جيدا لأواجَه بعمي سعدي جالسا مرتديا دشداشة عراقية. اقتربت منه لأقبّل كتفه، فأجهش بالبكاء. قال لي عندها الحارس الكردي: “عمك سعدي مفلوج. اصبر عليه ليهدأ.” صبرت طويلا ليهدأ عمي سعدي. هدأ وقال لي: “خرجت من البيت إلى ساحة الواثق، فرأيت دبابات حسبتها للوهلة الأولى دبابات الجيش العراقي. دققت وإذ بعلم العدو الأميركي فوقها. غبت عن الوعي ووقعت أرضا، وأفقت في المستشفى مفلوجا.. العراق محتل!” وأجهش عمي سعدي في بكاء شاركت فيه بحسرة وألم.
قدّم لنا جوان الحارس الكردي الماء ليهدِّئ كورس البكاء. هدأ عمي سعدي ونظر إلى صورة العذراء مريم والطفل يسوع المعلقة على الحائط وخاطب العذراء: “يا مريم أم الرب.. العراق محتل. اشفعي فيه وخلّصيه وأهله من الاحتلال الظالم. تَمجَّد الرب مخلّصنا!” أضفت: “يا عذراء اشفعي في عمي سعدي، واشفيه من مرضه!” قاطعني قائلا: “ماكو طلب عندي للعذراء إلا العراق.. يوم يخرج الاحتلال من العراق، سأكون بخير ولن يهمّني الفالج. العراق العظيم قلبي وجسدي وروحي. أريد أن أعيش لأشهد لحظة اندحار الغزاة، وليس لي بعد ذلك رجاء.”
 
عدنان الخياط


 
 
اخترنا لك
علقت المظلة بجانح الطائرة!
04:50
فيضانات مرعبة!
04:04
بسبب العقوبات… الجيش الأميركي يصادر ناقلة نفط!
02:14
طلاب لبنانيون يتألقون في أولمبياد الروبوتات
2025-12-09
إشترك بنشرتنا الاخبارية
انضم الى ملايين المتابعين
Download Aljadeed Tv mobile application
حمّل تطبيقنا الجديد
كل الأخبار والبرامج في مكان واحد
شاهد برامجك المفضلة
تابع البث المباشر
الإلغاء في أي وقت
إحصل عليه من
Google play
تنزيل من
App Store
X
يستخدم هذا الموقع ملف الإرتباط (الكوكيز)
نتفهّم أن خصوصيتك على الإنترنت أمر بالغ الأهمية، وموافقتك على تمكيننا من جمع بعض المعلومات الشخصية عنك يتطلب ثقة كبيرة منك. نحن نطلب منك هذه الموافقة لأنها ستسمح للجديد بتقديم تجربة أفضل من خلال التصفح بموقعنا. للمزيد من المعلومات يمكنك الإطلاع على سياسة الخصوصية الخاصة بموقعنا للمزيد اضغط هنا
أوافق