جورج خضر: لاهوت الحرية

2023-07-04 | 09:20
جورج خضر: لاهوت الحرية

جورج خضر: لاهوت الحرية

 كتب الياس خوري: 
"في ندوة نظمها «منتدى كرايسكي» في فيينا (25 و26 حزيران-يونيو 2023)، قُدمت قراءات فكرية ولاهوتية حاولت تحليل المعاني الدينية التي طفت على سطح الصراع العربي- الإسرائيلي في العقد الحالي.
وعلى الرغم من أنه لم يسبق لي أن أعرت هذه الظاهرة كبير اهتمام، انطلاقاً من قناعتي بأن المشروع الصهيوني هو في جوهره مشروع كولونيالي، وأن تأويلاته الدينية جاءت بعد تأسيسه بفترة زمنية طويلة نسبياً، غير أنني أعتقد أن مناقشة هذه الظاهرة باتت أمراً ضرورياً، من أجل أن نفهم التعقيدات التي فرضتها التيارات الدينية الصهيونية على المشهد الفلسطيني، ونستشرف بعض معالم جنون المستوطنين الذين يحوِّلون الضفة الغربية إلى أرض للبوغرومات الوحشية في القرى الفلسطينية.
اللافت في هذه الندوة هو بروز مصطلح لاهوت التحرير الفلسطيني. وعلى الرغم من أن هذا المصطلح لا يزال يحبو ويبحث عن طريقه، فإنه بات يشكل ظاهرة تستحق التوقف عندها ودراستها وقراءة أبعادها واحتمالاتها في مواجهة المسيحية الصهيونية المنتشرة بشكل خاص في الولايات المتحدة.
في فيينا ووسط النقاش الذي شارك فيه كوكبة من الباحثات والباحثين الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة، شعرت بضرورة العودة إلى بدايات التفكير العربي المسيحي الذي سعى بأشكال مختلفة لصوغ ممارسة فكرية تدعو إلى الانحياز لقضايا المجتمع والعدالة. هنا يبرز اسم المطران غريغوار حداد، الذي أسس الحركة الاجتماعية، وتحلّق حول مجلته «آفاق» نخبة من المثقفات والمثقفين الذين حاولوا أن يشكلوا امتداداً للاهوت التحرير الذي نشأ في أمريكا الجنوبية تحت وهج التجربة الغيفارية.
وفي المقابل، نشر الكاهن ميشال حايك كتابه الرائد: «المسيح في الإسلام»، وهو يقدم صورة جديدة لعيسى بن مريم كما وردت في نصوص إسلامية مختلفة، وهي صورة مدهشة ومرتبطة بالتراث الحكائي الشعبي. كتاب حايك ردم الهوة الثقافية بين مسيح الأناجيل الأربعة المعتمدة وبين الأناجيل «المنحولة»، وأقام جسراً بين الحكاية وتمثلاتها الشعبية.
حملت معي إلى فيينا كتاباً واحداً: «فلسطين المستعادة» للمطران جورج خضر. ورغم أنه سبق لي أن قرأت هذا الكتاب عند صدوره في أواخر ستينيات القرن الماضي، غير أنني وجدت نفسي من جديد أمام رؤية مدهشة وخلّاقة، يمكن أن تشكل الأساس النظري لما يمكن أن نطلق عليه اسم لاهوت الحرية.
وعندما شاركت في المناقشات وقرأت للزميلات والزملاء مقاطع من هذا الكتاب، لم يدُر في خلدي أنني كنت احتفل، على طريقتي، بعيد ميلاد أحد كبار معلمي جيلنا جورج خضر، الذي يطوي في السادس من تموز- يوليو 2023 عامه المئة.
جورج خضر ليس كاهناً وأسقفاً فقط، إنه علامة كبرى في أدبنا العربي، كما أنه علّامة اختزن في روحه المعرفة والتواضع، الحب والغضب، ووقف بيننا مثلما وقف إيليا النبي معلناً معمودية النار.
خضر عمّد كنيسته بلغة العرب، محوّلاً التأمل إلى شعر، والكلمات إلى نار يشتعل فيها التوق إلى الحرية والخلاص، فمسيحه ليس في المغارة، إنه «في خيام اللاجئين». تحوّلت فلسطين في قلمه إلى خريطة جديدة للعرب: «العالم العربي كله تبرره فلسطين ولا يبررها؛ أي أنه قائم من أجلها. موجود إذا اعتبرها مِنة الله عليه وقُدس رغبات المؤمنين بالفداء سبيلاً إلى تقديس أرواحهم وإنقاذ العالم العربي من اللغو».
المصير العربي في لاهوت جورج خضر يصنعه الألم: «إن اندراجي في المصير العربي غير مشروط. أنا مرميٌّ في هذا المصير لكون سيدي مرمياً فيه. أنا أصنع هذا المصير بألمي».
وجورج خضر يختار أن يكون إلى جانب إسماعيل في متاهات العسف: «وقبل أن يأتي الرب في المجد، لا بد أن يأتي في دم المظلومين. نحن إذا حيث المسيح ذبيح، نحن بالتالي في تاريخ العرب وفي مصيرهم وإسماعيل طريد في متاهات العسف».
في رؤية متكاملة تضع يسوع الناصري في تاريخه الفلسطيني، وتعيد قراءته على ضوء مآسي النكبة المستمرة، صاغ جورج خضر فلسطينه ليس كاستعارة بل كحقيقة مصبوغة بالألم والدم، فقراءته تتميز في كونها تضع المسيح في قلب التجربة الفلسطينية، وتحرره من الأطر الجاهزة، وتراه في أعين الرعاة وليس في أعين الملوك، وتبني له عرشاً في قلوب اللاجئين والمضطهدين.
ذهب جورج خضر بعيداً في لاهوته الفلسطيني، فهو لم يدخل في الجدل حول مشروعية استخدام العنف، بل انطلق في أحد مقالات كتابه من العمل الفدائي بصفته مغامرة روحية. كتب عن «حركة فتح» عام 1968: «سحر فتح أنها تُعملق المسحوقين في الأرض، وأهمية العملقة روحية. فتح لنا في آخر المطاف مغامرة روحية ينقذنا بها الله من الكسل».
«فلسطين المستعادة»، ليس كتاباً تأملياً فقط، إنه ثورة فكرية تأخذ عمل النهضويين الذين أسسوا لغتنا الحديثة، إلى مكان جديد، فهو لا «ينصّر العربية»، رداً على القول الشائع «أبتِ العربية أن تتنصر»، بل يضع مسيحه في قلب الألم العربي، مُبحراً في رحلة اكتشاف العلاقة بين روحانية يسوع الناصري وتاريخية المأساة الفلسطينية، كاسراً القوالب الجاهزة ومحطماً الأكاذيب، راسماً العلاقة بين الأدب بصفته فاعلية روحية للتخطي والتجاوز، وبين بطل تراجيدي صُلب منذ ألفي عام. هذا البطل التراجيدي تقمص كل المظلومين والمهمشين في الأرض، لذلك صار اسماً آخر لفلسطين.
يأخذنا جورج خضر في نصوصه الرؤيوية إلى الشعر الذي اغتسل بدم الخروف المذبوح، بحسب يوحنا. وهو شعر ينثر الحب محولاً الكلمات إلى جسر للعبور إلى العمق الإنساني.
يتراءى لي صوته وقد اكتمل فيه الزمن، وكأنه الوجه الآخر للحب الذي كتبته رابعة العدوية، وهي تشهد كيف حوّل هذا الأسقف كلماتها إلى أيقونة تقف إلى جانب النوافذ التي تفتحها الأيقونات على الأبدية:
«أحبكَ حُبين حبَّ الهوى/ وحباً لأنك أهلٌ لذاكَ/ فأما الذي هو حبُ الهوى/ فشغلي بذكراك عمن سواكَ/ وأما الذي أنت أهلٌ له/ فكشفك للحجبِ حتى أراكَ».
فلسطين جورج خضر هي معنى العرب، فمتى يعود العرب إلى المعنى الذي صاروا من دونه كمّاً مهملاً وجغرافيا بلا روح؟"
Download Aljadeed Tv mobile application
حمّل تطبيقنا الجديد
كل الأخبار والبرامج في مكان واحد
شاهد برامجك المفضلة
تابع البث المباشر
الإلغاء في أي وقت
إحصل عليه من
Google play
تنزيل من
App Store
X
يستخدم هذا الموقع ملف الإرتباط (الكوكيز)
نتفهّم أن خصوصيتك على الإنترنت أمر بالغ الأهمية، وموافقتك على تمكيننا من جمع بعض المعلومات الشخصية عنك يتطلب ثقة كبيرة منك. نحن نطلب منك هذه الموافقة لأنها ستسمح للجديد بتقديم تجربة أفضل من خلال التصفح بموقعنا. للمزيد من المعلومات يمكنك الإطلاع على سياسة الخصوصية الخاصة بموقعنا للمزيد اضغط هنا
أوافق