الجزائر ولبنان: قصةُ الدعم والمؤامرة

2023-09-21 | 04:22
الجزائر ولبنان: قصةُ الدعم والمؤامرة

كتب الاعلامي سامي كليب:

ما إن أنهى رئيسُ حكومةِ لُبنان نجيب ميقاتي كلمتَه التي ألقاها في القمة العربيّة الحادية والثلاثين في الجزائر في العام الماضيّ، حتّى ردّ عليه الرئيسُ الجزائريّ عبد المجيد تبّون قائلاً:" مثلما تحدّثنا سابقًا على انفراد سنكون دائمًا مع لبنان ". لم يكن ذلك كلامًا لرفع العتب أو المُجاملة،( والجزائريون أصلاً لا يحسنون المجاملة) وإنّما انطلق من هدفين: أولُهُما تفعيلُ العلاقة الوطيدة التي ربطت البلدين طيلة تاريخِهما الحديث، وثانيهُما الرغبةُ الجزائريّة العميقةُ في إطلاق مشروع عربيّ نهضويّ، يكون للُبنان وسوريا فيه دورٌ كبير.

لم يعرف لُبنان طيلةَ تاريخِه الحديث من شقيقته الجزائر، سوى كلّ خيرٍ ومساعدة، أكانَ ذلك في الأزمات والحروب والكوارث حيث كانت السلطات الجزائريّة تهبّ للنجدة والمساعدة، لا بل والقتال مع أهلِ الشرق ضدَّ العدو الاسرائيليّ، أو من خلال المِنح الطلاّبية والمساعدات في أكثرَ من مجال. ولم تطلب الجزائر مُقابلَ ذلك أيَّ شيء، ولم تتدخّل في السياسة الداخليّة اللُبنانيّة، ولم تنخرطْ في أيّ فِتَنٍ مذهبيّة أو طائفيّة، حتّى ولو أنّها في سياق قناعاتِها ومبادئ ثورتِها المجيدة، دعمت الحركةَ الوطنيّة والعمل الفدائيَّ الفلسطيني َّ لقتال العدو وليس للاحتراب الداخليّ.

كانت كلُّ الأمور بين الجزائر الداعمة، ولُبنان المحتاج الى دعمِها، تسيرُ على نحوِها السلس، حتّى انفجرت قضيّةٌ غريبةٌ عجيبة، اسمها " النفط المغشوش وغير المطابق للمواصفات من شركة سوناطراك الجزائرية" والذي وصل الى لُبنان عبر البحر. تبيّن لاحقًا أنّ ثمّةَ من بدّل النفط الجزائريّ النظيف في عرض البحر بنفطٍ مغشوش، سارعت الجزائر إلى محاكمة الفاعلين، وعرضت التعويض، لكنّ القضية في لُبنان أخذت ابعادًا أعمق وضجّة مُفتعلة، ما دفع إلى الاعتقاد بأنّ ثمّةَ أسبابًا أخرى خلفَ كلّ ذلك، قد يكون الهدفُ منها، إبعادُ الجزائر عن لُبنان.

بانتظارِ أن يقولَ القضاءُ اللُبناني كلمَتَه، وبأن يذهب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في فرصة قريبة الى الجزائر حاملاً ملفَ الحلّ المنشود (وفق ما هو مُتوقّع)، رُبّما الإشارة مفيدة إلى أنّ الجزائر كانت قادرة على رفع القضية أمام القضاء البريطاني، وتحميل لُبنان أعباء ماليّة عالية للمرافعات وغيرها، لكن يبدو أن القرارَ السياسيّ، ذهب في اتجاه آخر، مفادُه حلّ هذه القضيّة بالحُسنى، أو على الأقل فصلها عن مسار تعزيز العلاقات بين البلدين.

الواقع أن مستقبل العلاقات الجزائريّة اللُبنانيّة واعدٌ، وهو أعمق بكثير من قضيّة تفترّض التدقيق في أهداف مُفجّريها، ( حتّى وإن كانت نوايا بعضِهم سليمة تنطلق من الحرص على لُبنان وشفافية عقود النفط والتجارة معه).

المستقبلُ واعدٌ لأنّ من يتابع بدقّة خطابات الرئيس الجزائريّ عبد المجيد تبّون الذي تولّى الحُكم بعد سنوات من الأزمات الداخلية والانكفاء الدبلوماسيّ الجزائريّ عن افريقيا والعمق العربيّ والعالم، ومَن يقرأ بعمق تصريحاتِه ومقابلاته والحركة الدبلوماسيّة الناشطة والجريئة التي يؤسّس لها في أفريقيا، وحيالَ فرنسا، وفي المجال العربيّ، يستنتج دون عناءٍ كبير أنّ الرجُلَ يطمح ويعمل على استنهاض مشروع عروبيّ واسع، وأنّه لم يُرسل عنوةً، سفيريَن من أبرز دبلوماسيّيه إلى كلّ من دمشق ( الدبلوماسي والكاتب والمثقف الكبير كمال بوشامة) و بيروت ( الدبلوماسي العريق رشيد بلباقي)، وإنّما ارسلهما عن سابق تفكير وتصميم لتوسيع العلاقات وووضع اللبِناتِ الأولى لمشروع طموح.

لو عُدنا قليلاً الى القمة العربية ال 31 التي استضافتها الجزائر، وشهدت نجاحَ تبّون في لمّ الشمل العربيّ وجمع الفصائل الفلسطينيّة المتناحرة، لوجدنا أن كلمَتَه كادت تُشبه الى حدّ بعيد في مراميها كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر الأمن في ميونيخ عام 2007،  وذلك  لجهة التأسيس لفكرةٍ عالميّة واقليميّة جديدة تقوم على مبدأ الكرامة الوطنية، واستنهاض مشروعٍ يواكب التحوّلات العالمية، وعدم حصر العلاقات الخارجية بدولة أو محور.

قال تبّون في القمة في العام الماضي: إنّ " منطقتنا العربيّة لديها إمكانيات ومقدّرات بشريّة وطبيعيّة وماليّة هائلة تؤهِّل المنطقة لأن تكونَ فاعلةً كقوّة اقتصاديّة عالميّة"، ونحن لا نقبل أن يقتصرَ دورُنا الاقتصاديّ على التأثر، ولا بدَّ من استرجاع الثقة بأنفسنا لنكون مؤثّرين في المشهد العالميّ والاقتصاد الدوليّ خاصّة أنَّ احتياطياتِ بلادِنا العربيّة من النقد يُعادل احتياطيّ أوروبا أو مجموعات اقتصاديّة آسيوية أو أمريكيّة كبرى".

لم تتوقّف استراتيجية تبّون ومن خلفِه طبعًا الدوائر العسكريّة والسياسيّة المؤثرة في الجزائر عند حدود الكلام أو جمال الخطاب، وإنّما انطلقت إلى أرض الواقع، فحجبتَ الجزائرُ سماءَها عن الطائرات الفرنسيّة أكثر من مرة حين أرادت العبورَ ( كما كانت تفعل سابقًا) صوب مالي أو النيجر وغيرها، ووسعت الدبلوماسيّة الجزائريّة نشاطها صوب افريقيّا، حيث مَحَت ديونَ دولٍ وموّلت مصارفَ افريقيّة وساهمت في صد الإرهاب ( خصوصا بعد القوانين الجديدة التي باتت تسمح للجيش الجزائري بعبور حدود بلاده صوبَ دولٍ أخرى اذا ما تطلّب الأمنُ ذلك)، ووازَنت الدولةُ الجزائريّة بين علاقاتِها الخارجية،بحيث ضيّقت هامشَ الانفراد الفرنسي بخيرات وصفقات وتجارة الجزائر الخارجيّة ، وعقدت اتفاقيات من اميركا وكندا وألمانيا حتّى الصين وروسيا والهند.

لُبنان بهذا المعنى مهمٌ جدًّا، ذلك أن الجاليةَ اللُبنانية في افريقيا ما زالت كبيرة الفعالية رغم كلّ محاولات التضييق التّي تعرّضت لها، وتعاونها بالتالي مع الجزائر في استثمارات داخلية جزائرية، أو عبر افريقيا كبيرُ الفائدة للجانبين، ولُبنان كان وسيبقى ساحة مؤثرة في السياسة الفرنسيّة، وهذا يعني أنَّ توسيعَ دائرة الاهتمام الجزائريّ بهذه الساحة قد يدخلُ لاحقًا في استراتيجية التنافس الفرنسيّ الجزائريّ. وقد كان لافتًا، رُبّما من قبيل الصُدفة أو العَمد، أن تأتي زيارةُ سفيرِ الجزائر إلى قائد الجيش العماد جوزف عون مُباشرة بعد استقبالِ الأخير للمبعوث الفرنسي جان إيف لودريان.

تستطيعُ الجزائر بحُكم علاقاتِها مع جميع الأطراف في لُبنان ( ظهر ذلك جليًّا من خلال جولة السفير الجديد على معظم المسؤولين ومن الكلام الطيّب الذي قاله الجميع له حول الجزائر)، أن توسّع دورَها اللُبنانيّ، فهي بحُكم شرعيّتِها الثوريّة المقاومة ورفضِها القاطع للتطبيع مع إسرائيل، تحتلّ مكانةً خاصة عند الثُنائي الشيعيّ وعند كلّ من يحملُ فكرًا مناهضًا للعدو في لُبنان، وهي دعمت تاريخيًّا حركة أمل أثناء مقاومتها إسرائيل ( وهو ما حرِص الرئيس نبيه برّي على قوله للسفير الجزائري مُذكّرًا بفضل بلاده على الحركة ) ، وكذلك فإن الجزائر وبحُكمِ ترفُّعِها عن التدخّل في شؤون لُبنان، ومعاملة الجميع حاليًّا على قدمِ المساواة، تستطيع أن تلعبَ دورًا أوسع ، أكان في سياق الحوار اللُبنانيّ الداخليّ، أو في اعادة وصل العلاقات اللُبنانيّة السوريّة لحلّ قضية النازحين والحدود والتجارة وغيرها، أو في تقديم مساعدات كُبرى للُبنان ليس في مجالات النفط والطاقة فحسب ، بل أيضًا في مجالات حيوية كبرى، مثل البنى التحتيّة ومواد البناء والزراعة والحاجات العسكريّة لقوى الأمن والشرطة والجيش وغيرها، ناهيك عن المنح الدراسيّة وبعض المعدّات التي تفيض عن حاجة الجزائر ويحتاجُها لُبنان.

يبدو على كلّ حال، أنّ الرئيس تبّون قد أعطى تعليماتِه الحاسمة، لمساعدة سورية ولبنان، وأنّ استراتيجيّتَه لاستنهاض مشروع عربيّ عروبيّ، ليست كلامًا عابِرًا. صحيح أن قوانين قيصر تحدّ من قدرة الجزائر على تقديم عونٍ واسع للشعب السوري في محنته الاقتصاديّة الحاليّة، لكن الاتجاه الجزائري حيال التكتّلات الدوليّة الكُبرى، من شأنِه تغييرَ الكثير من المعادلاتِ لاحقًا. لعلّ هذا بالضبط ما يجعل عددًا من الأطراف والدول تنظر بعين الحذر للنشاط الجزائري المتجدّد وتحاول اعاقته.

هل يُدرك ساسةُ لُبنان كلّ هذا، أم أنّ كلّ عيونِهم ما زالت شاخصة الى البحر حيث مرّت يومًا ما حمولةُ نفطٍ مغشوش، قامت به مافيا لا علاقة لسوناطراك بها؟

عند رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الجواب، وعسى الّا يتأخر.

Download Aljadeed Tv mobile application
حمّل تطبيقنا الجديد
كل الأخبار والبرامج في مكان واحد
شاهد برامجك المفضلة
تابع البث المباشر
الإلغاء في أي وقت
إحصل عليه من
Google play
تنزيل من
App Store
X
يستخدم هذا الموقع ملف الإرتباط (الكوكيز)
نتفهّم أن خصوصيتك على الإنترنت أمر بالغ الأهمية، وموافقتك على تمكيننا من جمع بعض المعلومات الشخصية عنك يتطلب ثقة كبيرة منك. نحن نطلب منك هذه الموافقة لأنها ستسمح للجديد بتقديم تجربة أفضل من خلال التصفح بموقعنا. للمزيد من المعلومات يمكنك الإطلاع على سياسة الخصوصية الخاصة بموقعنا للمزيد اضغط هنا
أوافق